حرب اليمن، التي اندلعت عام 2015، لم تكن مجرد صراع على السلطة، بل تحولت إلى واحدة من أفدح الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، عبثًا وتخبطًا وضياعًا. ولم يكن في حسبان الأطراف المحلية المتصارعة أن تنزلق البلاد إلى مرحلة تدخل القوى الدولية، لتجد نفسها في مواجهة مباشرة مع الحلف الصليبي للرجل الأبيض الأمريكي اليوم، حيث يتجسد الانقسام بين شرف الدفاع عن الوطن وإهانة التدخلات الخارجية، وسط تصاعد الصراع وتعمق الاصطفافات الدولية.
إن أسوأ ما في هذه الحرب لم يكن السلاح، بل الكذب الممنهج… والتزييف الإعلامي الذي قتل الوعي قبل أن يُقتل الأبرياء
فريق مُثلث
منذ أن تشكّل تحالف العرب ضد اليمن، لم تكن الطائرات وحدها تحلّق في سماء البلاد… بل كان خطاب إعلامي ممنهج يقصف العقول قبل أن تُقصف الأرض. خطابٌ مُسعور، لا يميز بين دولة وشعب، بين نزاع داخلي وفرصة إنقاذ. خطابٌ شيطن كل ما هو يمني، وكرّس لصورة مُضلّلة اختزلت اليمن بأكمله في صراع طائفي أو وكيل إقليمي.
لقد وُظّف الإعلام لتحويل الأنظار عن جريمة تفكيك الدولة، وتمرير مشروع “إيرنة” مصطنع، لا وجود له في وجدان اليمنيين، بل صُنع كذريعة لتبرير التدخل العسكري الخارجي، وتسويغ حرب بلا أفق
كاليودوسكوب الخراب
سنواتٌ ثقيلة مرت، كانت السماء فيها تمطر قصفًا، والأرض تتلوى تحت وطأة التجويع والتشويه. غابت الحقيقة، وضاعت ملامح الصوت اليمني الأصيل بين ضجيج القنابل وصمت العرب المخزي. لم يكن ما حدث سوى تتويج خبيث لمخطط ناعم، بدأ بالتحريض الخفي، وانتهى بتجريد الدولة من كل معالم سيادتها وقوتها العسكرية، تحت سمع العالم وبصره، كأنهم شهود زور في مأتم وطن.
نحن اليوم أمام لحظة إدراك متأخرة: لم يكن الهدف إعادة الشرعية، بل إعادة صياغة اليمن بما يتناسب مع مصالح الخارج. وما الخطاب الإعلامي الذي سبق القصف ولحقه، إلا تمهيد فكري لمجزرة سياسية وأخلاقية لن تُمحى من ذاكرة التاريخ.
إن أسوأ ما في هذه الحرب لم يكن السلاح، بل الكذب الممنهج… والتزييف الإعلامي الذي قتل الوعي قبل أن يُقتل الأبرياء
ربما نحن أمام “تحرير” مشوه، يرفع الوصاية القديمة ليحل مكانها أخرى، انتصارٌ يحمل طعم الإذلال، وتحريرٌ يكتسي بثوب الوصاية الناعمة.
فريق مُثلث
منذ أكثر من عقد، واليمن تُستباح… لا باسم الحرية، بل تحت رايات القصف والوصاية. عبثٌ ممنهج أصاب هوية الدولة اليمنية، وفرضٌ قسري لتشييع مجتمعي لم يعرفه تاريخ اليمن، ولا عرفته تقاليده. هذا العبث لم يكن عشوائيًا، بل كان المبرر الذي طالما انتظرته أوغاد الحرب في أمريكا لتُشرعن عدوانها، وتقصف، وتدمر، دون أن يُسمع صوت عربي أو دولي يندد أو يحتج
لقد سُحقت مقدرات البلد، وهُدمت مؤسساته، لا بسواعد الداخل وحده، بل بتحالف خارجي شن حربًا شعواء على انقلاب سياسي داخلي، كان بالإمكان احتواؤه بالحوار، لا بالإبادة. كان من الممكن أن تُستعاد الدولة، لا أن تُستأصل.
ما حدث في اليمن ليس مجرد نزاع… بل هو أبشع فعل سياسي عرفته الساحة العربية بعد خيانة العراق وتسليمها للمحتل. نحن أمام جريمة مكتملة الأركان: تفتيت دولة، وتجريدها من كل قوة، من جيشها، من سيادتها، من مؤسساتها.
فتنة في مرآة مشروخة
ماذا سيتبقى للكيان السياسي اليمني الذي يطمح في قيادة بلاده وسط هذا الخراب؟ حينما تفتقد الدولة هيبتها، وتنهار مؤسساتها الحيوية وقوتها العسكرية، وتفقد قدرتها على فرض إرادتها، كيف سيكون حال قادتها وهم يقفون أمام أسودٍ جائعة، يتفاوضون من تحت أنيابها؟
ربما نحن أمام “تحرير” مشوه، يرفع الوصاية القديمة ليحل مكانها أخرى، انتصارٌ يحمل طعم الإذلال، وتحريرٌ يكتسي بثوب الوصاية الناعمة. ما يجهله اليمنيون اليوم هو أنهم، بأيدهم وأيدي الخونة، قد دفعوا ببلادهم إلى معسكرات القوى الأجنبية، ليصبحوا تحت وطأة وصاية لا ترحم.
إن إنقاذ اليمن اليوم هو إنقاذ لما تبقى من كرامة الأمة العربية. وإن عدم التحرك الجاد الآن، يعني ترك وطن عريق يُمحى من التاريخ
فريق مُثلث
إنهم لم يدركوا بعد معنى الأجنحة العسكرية البديلة والمتكفلة من الخارج والتي حٌلت مكان جهاز الدولة السيادي ( الجيش الوطني الموحد )، ولا وقع الخطاب الطائفي الذي مزق نسيج الوطن، وأدى به إلى حافة أزمة إقليمية كانوا في غنى عنها. “
ربما تأخر الوعي، لكن لم يُغلق باب النجاة بعد. آن الأوان لنعترف: ما جرى لم يكن صدفة، بل كان فخًا مرسومًا بخيوط دقيقة. من أيقظ فتنة اليمن لم يشعل مجرد خلاف… بل فتح بوابة من الجحيم لم يعرفها هذا الوطن منذ ولادته، جحيم يعصف بهوية الأرض وذاكرة الإنسان.
ترميم السيادة من الركام
ليس أمام اليمن اليوم سوى طريق واحد للخلاص: العودة إلى مشروع وطني جامع، يعلو فوق الولاءات الخارجية والانقسامات المذهبية والمناطقية. مشروع يستند إلى أساسين لا ثالث لهما: الحوار الوطني الحقيقي واستعادة القرار اليمني المستقل دون وصاية أو تدخل أجنبي.
يجب إيقاف الحرب فورًا عبر مبادرة يمنية خالصة، لا تملى من الخارج.
- تشكيل مجلس وطني انتقالي يضم كل القوى الوطنية الرافضة للتبعية، بعيدًا عن أمراء الحرب.
- إطلاق مصالحة مجتمعية شاملة، تعيد لحمة النسيج الاجتماعي اليمني الذي حاول الغزاة تمزيقه.
- تفكيك كافة المليشيات المسلحة، ودمج كل القوى القتالية تحت مظلة جيش وطني موحد، يخضع لسلطة الدولة لا للولاءات الطائفية أو المناطقية.
- بدء خطة شاملة لإعادة إعمار اليمن بمشاركة دولية عادلة، مع اشتراط ألا تكون أداة لفرض الهيمنة مجددًا.
والأهم من ذلك، أن يكون هناك ميثاق شرف سياسي ملزم لكل القوى اليمنية، يقوم على احترام إرادة الشعب، والتداول السلمي للسلطة، ورفض التدخل الأجنبي بكل أشكاله.
إن إنقاذ اليمن اليوم هو إنقاذ لما تبقى من كرامة الأمة العربية.
وإن عدم التحرك الجاد الآن، يعني ترك وطن عريق يُمحى من التاريخ بأيدي أبنائه وأعدائه معًا