لم تكن الخرائط يومًا مجرد خطوط وحدود تفصل بين الدول، بل كانت وما زالت لغة صامتة تعبّر عن حضور الأمم ومكانتها في الوعي الجمعي للعالم. فشكل الأرض على الورق ليس تمثيلًا جغرافيًا فحسب، بل هو انعكاس لمدى حضورها في الأذهان والضمير الإنساني.
تحوّلت الجغرافيا من أداة معرفة إلى أداة إدراكٍ غير متكافئ تعيد إنتاج النفوذ
فريق مُثلث
حين نُمعن النظر في خرائط العالم الحديثة، نرى اليمن غالبًا في الزاوية الجنوبية لشبه الجزيرة العربية — مساحة تبدو صغيرة مقارنة بجاراتها، هامشية على سطح الورق، لكنها في الحقيقة *أوسع من ظاهرها بكثير. تمتد على أكثر من * نصف مليون كيلومتر مربع، وتطل على بحرين وتحتضن جبالًا شاهقة وصحارى شاسعة وجزرًا مترامية في بحر العرب.
إلا أن طريقة تمثيلها في الخرائط الرقمية والمناهج الدراسية والإعلامية، جعلتها تبدو كأنها ظلٌّ جغرافيّ لدولة أكبر، أو مساحة ثانوية في محيط واسع من المساحات الممتدة.
هذا “التحجيم البصري” لا يقتصر على اليمن وحدها؛ فالتاريخ الجغرافي مليء بأمثلة مشابهة. فطريقة رسم الخرائط، وخاصة وفق إسقاط “ميركاتور” الذي طغى في القرن السادس عشر، جعلت بعض الدول الصغيرة تبدو أكبر من حجمها الحقيقي (كأوروبا)، بينما صغّرت مساحات أخرى شاسعة في الجنوب العالمي — ومنها اليمن وأفريقيا ومعظم آسيا. وهكذا، تحوّلت الجغرافيا من أداة معرفة إلى أداة إدراكٍ غير متكافئ.
يمكن القول إن الرسم الخرائطي لم يُشكّل نظرتنا إلى الأرض فحسب، بل أعاد أيضًا تشكيل نظرتنا إلى ذواتنا فيها.
فريق مُثلث
فعلى سبيل المثال، تُظهر الخرائط عُمان بحجمٍ يقارب اليمن، رغم أن المساحة الفعلية لليمن تقارب الضعف تقريباً (نحو 527 ألف كيلومتر مربع لليمن مقابل 310 آلاف لعُمان).
هذا التفاوت البصري لا يقتصر على مقارنةٍ واحدة، بل يمتد إلى الطريقة التي تُرسم بها بلاد الشام مثلاً — حيث تظهر أكثر اتساعاً وتأثيراً في موقعها، رغم أن مجموع مساحاتها جميعاً لا يتجاوز مساحة اليمن إلا بفارقٍ بسيط.
أما مصر، فتبدو على الخريطة ككتلةٍ ضخمةٍ تملأ شمال القارة، فيما تُجاورها اليمن بهامشٍ صغير يكاد لا يلحظ، رغم أن الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية لا يقل عنها عمقاً استراتيجياً أو تنوعاً طبوغرافياً.
هذه المفارقات في التمثيل البصري ساهمت عبر العقود في تشكيل وعيٍ جمعيٍّ ناقصٍ بحجم اليمن وأثرها. فحجم الدولة على الخريطة لا يعكس فقط مساحتها، بل يؤثر في إدراك الناس لمكانتها ودورها. وهكذا، أصبح اليمن — في الإدراك البصري العالمي — “بلداً صغيراً في زاوية الخريطة”، لا كما هو في الواقع: بلدٌ واسع الأفق، غنيٌّ بالتضاريس، وموصولٌ بالتاريخ والجغرافيا على حد سواء.
إن خريطة اليمن، مهما تقلّصت في صفحات الأطالس، تظلّ رمزًا للثبات والامتداد الحضاري والعمق التاريخي والهوية الوطنية.
فريق مُثلث
لكن رغم هذا التهميش البصري، بقيت *اليمن أرضًا حاضرة في التاريخ والجغرافيا والوجدان. فالمساحة ليست وحدها من يمنح التأثير، بل ما تحمله الأرض من *هوية حضارية وذاكرة إنسانية. من سبأ ومعين إلى حضرموت وعدن، ظلت الجغرافيا اليمنية منبعًا للتجارة، وممرًا للتاريخ، وجسرًا بين البحرين.
إن خريطة اليمن، مهما تقلّصت في صفحات الأطالس، تظلّ رمزًا للثبات والامتداد الحضاري. فالأرض لا تُقاس بالبُعد الهندسي فقط، بل بما تزرعه في وعي أبنائها من انتماء واعتزاز. ومع كل جيل جديد يدرك أن بلاده ليست “زاوية صغيرة” في العالم، بل ركيزة عميقة في قلب الجزيرة العربية، ينمو هذا الاعتزاز كجبلٍ جديد يضاف إلى تضاريسها الشامخة.
في النهاية، يمكن القول إن الرسم الخرائطي لم يشكّل فقط نظرتنا إلى الأرض، بل أيضًا نظرتنا إلى أنفسنا فيها.
واليمن، رغم ما يبدو من “هامشية على الورق”، تبقى في الوعي العربي والإقليمي مركزًا جغرافيًا وإنسانيًا لا يمكن إزاحته، مهما تغيّرت مقاييس الخرائط.
إنّ استعادة الاعتزاز بالأرض تبدأ أحياناً من إعادة رسمها في الوعي قبل الورق. فحين ندرك أن ما يُصغّرنا على الخريطة ليس واقع المساحة بل زاوية النظر، نعيد اكتشاف اتساعنا الحقيقي، اتساع الأرض والتاريخ والهوية معاً.
