تحتاج الى عشرين سنه من السلام لكي تبني كائناً بشرياً معتدلاً ، مقابل عشرين ثانية فقط من الحرب لكي تدمره
شكلت مُعضلة الاستعمار الذي اجتاح البلدان العربي خلال القرنين التاسع والعشرين أرقً فكرياً للمفكر الجزائري مالك بن نبي، جعله لا يقنع بالمبررات الظاهرية التي قدمت لتفسير هذه الأشكالية، فذهب يوغل في علاقاتها السببة للوصول الى مكمن الداء الحقيقي، ليتكشف في المقابل ما سماه “قابلية الاستعمار” الذي ينطبع في المخيال الجمعي للشعوب ليؤدي بها الى الخنوع والإرتهان الخارجي، ليثبت حينها أنه ثمة هناك سمات نفسية لبعض فئات مجتمعاتها كالرضوخ والإتكالية والتكاسل والفشل الإداري، مما ساعد العامل الاستعمارية الخارجي لفرض رؤيتها وتصوراته على الكائن المغلوب على أمره نموذج محدداً للملامح .
وحين يكتمل خلق النموذج يظهر من باطن الفرد قابلية الإرتهان وهو معامل يجعل الفرد يستبطن مفاهيم المستعمر عنه ويقبل بالحدود رسمها لشخصيته بل يتعدى الامر بالدفاع عنه ويكافح ضد إزالته والخروج عن طوعه، فهذا العنصر من قابلية الاستعمار كما يشرحه مالك بن نبي هو العامل الداخلي المستجيب للعامل الخارجي ( المستعمر )، أي إنه الرضوخ الداخلي العميق الذي يُرسخ الاِرتها ويجعل منه مستحيل.
إذ أننا ربما نتطلب اليوم قبل غيره نمطاً فكرياً وسلوكياً حديثاً تجاه طبيعة ومزاج شعبنا، فقد يكون هناك إحلال عقدة من عقد سلاسل الانهزام الداخلي والخارجي
فريق مُثلث
هذه الملاحظة الإجتماعية تدعونا الى ان نقرر ما أودى به العبث السياسي للعهد الاخير من النظام في اليمن تجاه الارض والانسان ، إذ أنه من العيب كذلك أن نطلق هذه المسميات على شعب اليمن العزيز والذي قياساً مع أقرانه من البلدان العربية تتجلى ملامح الاستقلال والاكتفاء على مر تاريخه منذ فجر البشرية الاولى، مبرهناً بذلك العزلة الثقافية والسياسة والاجتماعية والحضارية الفريدة في جزيرة العرب مهد العروبة الاولى ومحرابها، لكن ما نطلق في هذا المقال هو البحث عن أحد مخارج الازمة الراهنة والقياس الاسترشادي في قطع إطالتها.
إذ أننا ربما نتطلب اليوم قبل غيره نمطاً فكرياً وسلوكياً حديثاً تجاه طبيعة ومزاج شعبنا، فقد يكون هناك إحلال عقدة من عقد سلاسل الانهزام الداخلي والخارجي الذي يتعرض له ممثلوا قضايا اليمن، فلن تكون هناك قدرة على التصرف في الطاقات الاجتماعية والاقتصادية مالم يكن هناك قدرة على استكشاف ما أودى بهذه الفوضى ان تستمر، ومن الإشارة للسابق فأننا بهذه التدوينة المختصره ( الغير كافية ) نوعز بعض الاسباب التي ساهمت في هذه الركود السياسي والاجتماعي والنظر للحال دون المآل، وهو ما اسميه في مقاربة لنظرية مالك بن نبي ( قابلية الاِرتهان ). أسباب قد تكون جُل بأيدي ممثلوا اليمن في قضاياه وفي سُلم إداراتها .
شكلت هذه الحقائق ثلاث أمور جذرية في الحالة اليمنية من الإرتهان الخارجي على مستوى مجلس الدولة كالتالي :
حماية الأقلية والامتياز الاجنبي
وهو اصطلاح يشير إلى قيام إحدى الدول الاجنبية التي لها أطماع في دولة ما، بإعلان مسؤوليتها عن أقلية ( سياسة كانت او دينية ) تعيش داخل حدود الدولة المستهدفة فتضعها تحت “حمايتها”، أي تتدخل في شؤون الدولة التي تعيش الأقلية في كنفها بحجة الدفاع عن مصالح هذه الأقلية. وتهدف فكرة الحماية هذه إلى إقناع أعضاء أقلية ما بأن مصالحها تختلف عن مصالح محيطها، وأن أفضل وسيلة لحماية هذه المصالح هي التحالف ، أي أن عواصم الخارج (عن طريق حماية الأقلية ) يحولها إلى جماعة وظيفية تعمل لصالحه ليأتي بعدها الحصول بالقانون على الامتياز الاجنبي الذي يعبر اصطلاحاً إلى المعاملة القضائية والقانونية الخاصة التي تقرر للأجانب الموجودين بعد العمليات السياسة والعسكرية الحديثة.
وذلك بمقتضى مجموعة من المعاهدات التي تقدم مصالحها فوق مصالح المركزية الوطنية حيث لن تكن هذه المعاهدات تعاقدية تبادلية، بل تكون في واقع الأمر تعبيرا عن بداية ضمور الدولة اليمنية وتحوُّلها بالتدريج إلى رجل العرب المريض وتهميش دورها وتفتيت قواسمها الاجتماعية وتقاسم مواردها الطبيعة، والانكى من ذلك هو الوصول الى الاعتراف بالوصاية الخارجية في الحرب والسلم ، ( بمعنى ان تشكيل الجيوش والدفاع عن سيادة الارض والسماء لن يكون بمنعزل عن الرغبة الخارجية ) فتشكلت بذلك صورة العامة للجماعات الوظيفية في الوطن اليمني وهي أن عواصم الخارج لم تستطع تمكينها في الثقافة السياسية الشرعية الحديثة ( النظام الجمهوري ) لكنه ربما نجح في ربطها بمصالحه الاقتصادية السيادية ورؤيته الثقافية عبر عزلها عن محطيها العربي، وضمن غياب القوة المنافسة له ولو على المدى القريب في الاقليم والعالم كدولة يمنية كبرى في جزيرة العرب.
تلك العوامل ساهمت في حالة الفوضى الوطنية وشرذمت الانتماء الوطني وأفرزت ذلك السلوك من القابلية للإرتهان الخارجي لدى غالبية عظمى من مسؤولي الوطن
الكاتب
أضفى هذا الطابع من الإمتياز الأجنبي على اقلام المأجورين وبعض البسطاء المغلوب على أمره، حالة العظمة في تَبجيل وتَمجيد كل سلوكيات أُمراء العواصم الخارجية امتثالاً لطاعة عمياء وتقربٌ بخس ليس من شأنه ان يقدم مصلحة وطنية أو احترام للحالة السياسية المنقسمة داخل الوطن، فأصبح الاطراء الباذخ للاحداث والفعاليات الخارجية والاحاديث المتبادلة بين مؤسسات القرار الخارجية أمر معهود على صفحات ممثلي القرار اليمني ثم الإسراف في الثناء والشكر لكل خطوة صغيرة وكبيرة حتى اصبح الأمر مشمئز ومقزز وعار على جبين الدولة اليمنية وأرثها الحضاري والثقافي ستلاحق الاجيال القادمة من أبناء الوطن.
فـ لك أن تراقب منصات التواصل لأعلى سلم الخطاب الاعلامي للدولة المتمثلة في رئاسة وزارة الاعلام حين يشحذ جاهداً في الاطراء على أحد أمراء المنطقة في كل صغير وكبيرة وهو في حالة إفراط بالمدح في تغريديته من زمن سابق لليوم ( فارس في مشيته ) وفي وقت يكاد يموت فيه الالاف من مواطنيه الشرفاء في معارك استعادة دولة نتأكد حينها أننا أمام أزمة حقيقة للإرتهان على مستوى رجال الدولة وممثلي إداراتها.
وليس هذا وفقط، بل وصل الإمتياز الاجنبي الى حد حرمة الدم اليمني واستهتار كرامته حين تعلو تلك الاصوات التي تتغنى بحرمة دماء الاجنبي على الارض اليمني فوق دماء وأشلاء مواطنيهم الشرفاء، وتقديس كل قطرة دم أجنبية يقابله صمت لمجازر وبحور دماء عربية يمنية اخرى تمت عبر أيديهم كذلك. تلك العوامل ساهمت في حالة الفوضى الوطنية وشرذمت الانتماء الوطني وأفرزت ذلك السلوك من القابلية للإرتهان الخارجي لدى غالبية عظمى من مسؤولي الوطن.
يتبع .. في قابلية الاِرتهان.. السداد