«بعد كل كارثة يتحرك المقاولون أصحاب الأعمال الخاصة مستخدمين التملق للبحث عن الأعمال المُنجزة بشكل سيئ، يلى ذلك إنفاق مليارات الدولارات من ميزانية الحكومة، مثلما حدث في برج جرينفل وإعصار كاترينا، الكارثة التي كشفت عن الازدراء الذي يعانيه الفقراء» – (نعومى كلاين)
في بعض الأوقات التي كنت أقوم فيها بإعداد التقارير من مناطق الكوارث، كان ينتابنى شعور سيئ؛ ليس فقط لأننى أشاهد الكارثة هنا والآن، ولكنني كنت أشعر أنني أرى لمحة من المستقبل، نظرة عامة على الطريق الذي نسير فيه. حينما استمعت لحديث دونالد ترامب، ورأيت استمتاعه الواضح بخلق جو من الفوضى وزعزعة الاستقرار، فكرت للحظة أنني رأيت ذلك من قبل في تلك اللحظات الغريبة، حينما بدت البوابات مفتوحة أمام مستقبلنا الجماعي. واحدة من تلك اللحظات حينما وصلت إلى ولاية نيوأورلينز عقب إعصار كاترينا؛ لأرى جحافل من قوات «المقاولين» الخاصة تهبط على المدينة الغارقة في الفيضان لإيجاد طريقة لتحصيل المنافع من الأزمة التي ضربت المدينة، في حين تم ترحيل الآلاف من سكان المدينة، وقد لقوا معاملة تشبه معاملة مجرم خطير يحاول البقاء حيًا وحسب.
إن تكتيكات الصدمة تتبع نمطًا واضحًا، تنتظر حدوث الكارثة، أو في بعض الحالات تصنع واحدة، مثل ما حدث في تشيلي أو روسي
فريق مُثلث
بدأت في تسجيل كل التكتيكات المتبعة في مناطق الكوارث حول العالم، استنادًا لنظرية عقيدة الصدمة لفهم الطريقة الوحشية المتبعة التي تستغل إرتباك جماهير العامة عبر أشكال متعددة من الصدمات (حروب، انقلابات عسكرية، هجمات إرهابية، هجمات على الأسواق، أو كوارث طبيعية، للدفع بالتدابير المؤيدة للفكر الراديكالى المسمى بـ(المعالجة بالصدمة).
إن تكتيكات الصدمة تتبع نمطًا واضحًا، تنتظر حدوث الكارثة، أو في بعض الحالات تصنع واحدة، مثل ما حدث في تشيلي أو روسيا، ثم يُعلن عن اللحظة التي تتُخذ فيها إجراءت استثنائية، مثل منع كل أشكال الممارسات الديمقراطية، ثم تسليم الأمر للمؤسسة المرغوب فيها بأسرع ما يمكن.
في انتظار وقوع الكارثة وحصد الغنائم
هكذا بدأت رسالة الكاتبة الكندية ( نعومى كلاين ) في أولى سطور مقالها المطول في صحيفة «الجارديان» البريطانية , وهو ما أستدعاء إصدار كتابها” عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث ” الكتاب الذي أُعد على أنه أحدث ثورة في التحليل السياسي للأزمات خلال نصف قرن من الان .. إذ أنه يؤكد على عامل غايب وهو نظرية نفسية تسمى الصدم النفسي الذي يتبعه فقدان المصدوم القدرة على مقاومة ملفات سياسية واقتصادية كان سيرفضها في وضع مختلف عن وضع الصدمة، الكتاب أُنتج من خلاله فيلماً قصيراً حمّل عن طريق شبكة الانترنت أكثر من مليون مرة خلال أشهر قليلة، لما له من دورٍ بارز في كشف المتلاعبين الحقيقيين بمصير البشرية، حتى في أحلك ظروفها من كوارث طبيعية وحروب ومجازر، ولما يقدّمه من معلومات فاجأت الكاتبة نفسها!!
يتحدّث في منتصف خلاصته عن أفكار ميلتون فريدمان ” عرّاب الرأسمالية الحديثة رأسمالية الكوارث” ، الذي تتلمذ لديه رؤساء جمهوريات أميركيون ورؤساء وزارة بريطانيون وأقليات حاكمة في روسيا ووزراء مال بولنديون وطغاة من دول العالم الثالث، والذي خرّج في مدرسته أبرز مفكّري المحافظين الجدد والليبراليين الجدد ممن لا يزال لهم تأثير قوي وفاعل في سياسة الولايات المتحدة.
إن الليبرالية الجديدة تصلي كل يوم من أجل أن تقع كارثة جديدة في العالم، بالخشوع نفسه الذي يصلي به المزارع من أجل أن تمطر السماء على أرضه التي تعاني الجفاف
نعومى كلاين
قدم الكتاب تحليل كيف بنى فريدمان أفكاره الاقتصادية والسياسية على وقوع الكوارث الطبيعية والاجتياحات العسكرية والانقلابات. وكيف يدّخر هو وفريق عمله الأفكار بانتظار حلول الكارثة تحت شعار الخصخصة أو الموت. ويذكر كيف جعل من تشيلي أولى حقول تجاربه يوم عمل مستشاراً للديكتاتور أوغستو بينوشي مشيراً عليه باستغلال صدمة الانقلاب أواسط السبعينيات. لم تسلم من أفكاره سريلانكا وبريطانيا ويوغوسلافيا. وامتدت أساليبه إلى الصين عقب الصدمة الناتجة عن مذبحة ساحة “تيانامين” واعتقال الآلاف هناك؛ وبلغت طروحاته دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
وعلى أثر التسونامي الذي ضرب جنوب شرق آسيا مخلّفاً مئات الآلاف من الضحايا كان نهج فريدمان الاقتصادي يدير المناقصات على الشواطئ لتحويلها منتجعاتٍ سياحية. وعقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر عمدت رأسمالية الكوارث ممثّلةً بحكومة بوش الى تسليم زمام الحرب على الإرهاب لشركتي هيلبورتن وبلاكووتر. كما جُهّز للعراق عقب غزوه حملة خصخصة شاملة وطرح اعتماد السوق الحرة فيه. حتى إعصار كارولينا الذين رأوا في فيضان مدينة نيو أورلينز فرصة سانحة؛ ميلتون فريدمان، الذي أطّل وهو في عمر الثالثة والتسعين عبر افتتاحية صحيفة وول ستريت ليكتب: “باتت معظم مدارس نيو أورلينز حطاما، تماما كما باتت منازل الأطفال، هذه مأساة، لكنها أيضا فرصة تتيح لنا إجراء إصلاحات جذرية في نظام التعليم”، وكان فريدمان يقصد أن تستغل الدولة فرصة انهيار المدارس العمومية، لتتوقف عن دعم التعليم الرسمي، وتترك الفرصة أمام التعليم الخاص وبناء مؤسسات تعليمية ربحية.
«إن الليبرالية الجديدة تصلي كل يوم من أجل أن تقع كارثة جديدة في العالم، بالخشوع نفسه الذي يصلي به المزارع من أجل أن تمطر السماء على أرضه التي تعاني الجفاف » – (نعومى كلاين)
قصة البداية | علاج بالصدمة الإقتصادية
شكلت لدى فريدمان نظرية تتمحور خلاصتها في قوله: (الأزمات فقط، حقيقية أو متصورة، تنتج تغييراً حقيقياً). وبما أن الأزمات والكوارث تنتج تغييرات محورية ومهمة عند حدوثها فإنه يجب استغلالها لمصلحة الحكومة أو لتحقيق أهدافٍ معينة، وفي حال عدم وجودها فإنه يجب افتعالها وصنعها ومن ثم استغلال نتائجها حسب ما يقول فريدمان في نظريته الحائزة على جائزة نوبل للاقتصاد.
مذهب أو عقيدة الصدمة، كما وصفته نعومي كلاين بأنه استغلال وتبني أنظمة متوحشة لظروف الكوارث والحروب، يمررون من خلالها خططا وقرارات على المجتمع في لحظات ما بعد الكارثة أو الصدمة بشكل يجعلها أمرا واقعا يصعب رفضه بعد انتهاء الكارثة.
تلك هي لحظات مطواعة للشعب والمجتمع، لحظة نكون فيها غير مستقرين نفسيا، تائهون منسلخون عن أجسادنا.. لحظة هي الأنسب ليبدأوا فورا عملهم في إعادة بناء العال
الكاتب
المؤمنون والمطبقون أو حتى المستغلون لعقيدة الصدمة، مقتنعون تماما بأن الانسلاخ وحده سواء كان – حربا، إعصارا، طوفانا أو انهيارا اقتصاديا- تلك هي لحظات مطواعة للشعب والمجتمع، لحظة نكون فيها غير مستقرين نفسيا، تائهون منسلخون عن أجسادنا.. لحظة هي الأنسب ليبدأوا فورا عملهم في إعادة بناء العالم!
كيف تم تحويل مفهوم العلاج بالصدمة الى عامل إقتصادي بحت في العصر الحديث حيث البداية حول ملف التجارب النفسية المتعلقة بالصدم و”الصفحة البيضاء”، عندما تعاونت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) مع طبيبٍ نفسي عبر تمويل أبحاثه التي ركزت على استخدام الصدمات الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين، وذلك من أجل تحويل أدمغتهم الى (صفحة بيضاء يمكن إعادة كتابة المعلومات عليها)!، حيث كانت معامل التجارب النفسية قد وضعت نظرية للتعذيب قائمة على أساس توظيف التعذيب في مسح معتقدات وأفكار الضحية ثم إعادة بنائها مجددا، وكيف انتقلت تلك التجارب إلى سياسات عالمية.
لتكلمة المقالة : راجع : اقتصاد الكوارث.. الرأسمالية