في سياق أخر .هناك غورباتشوف
يوصف أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأميركية مايكل كيماج الزعيم الروسي الراحل ميخائيل غورباتشوف ؛ “بالأحمق المقدس”. يوضح ذلك – في مقال له بمجلة فورين أفيرز (Foreign Affairs) الأميركية – أن غورباتشوف (آخر زعيم للاتحاد السوفياتي) ينطبق عليه هذا الوصف المستعار من مصطلحات المسيحية الأرثوذكسية
في الثقافة الشعبية الروسية، يُقدَّر نموذج الأحمق المقدس. مستمد من المسيحية الأرثوذكسية، يكون الأحمق المقدس خارجًا عن التناغم مع المجتمع التقليدي. يتحدث الأحمق المقدس بالحقيقة، ولكن قد يبدو للبعض الآخر وكأنه هراء. يتعثر الأحمق المقدس في الحياة، محققًا نجاحات تُعتبر إخفاقات وإخفاقات تُعتبر نجاحات. يمكن للأحمق المقدس أن يكون نبيًّا. في حين ينشغل الجميع بالعالم كما هو، يمكن للأحمق المقدس أن يدرك العالم كما يمكن أن يكون، وربما العالم كما سيكون. يمكن أن تبدو الحكمة في البداية كحماقة، ويمكن أن تبدو الحماقة في البداية كحكمة.
لم يكن لدى عبدربة رؤية مستدامة للمنطقة الاستراتيجية الحيوية التي يتمتع بها اليمن في الشرق الأوسط
فريق مُثلث
يمكن النظر إلى ميخائيل غورباتشوف، الزعيم السوفييتي السابق الذي رحل في 30 أغسطس عن عمر ناهز 91 عامًا، بوصفه “أبلهًا مقدّسًا”. فقد كان خارج إيقاع المجتمع السوفييتي التقليدي الذي وُلد فيه عام 1931، وذلك تحديدًا لأنه كان سوفييتيًا بإخلاصٍ نادر—ولأنه لم يتوقف قط عن كونه سوفييتيًا مخلصًا، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
لقد نطق بحقيقة جوهرية عن السياسة الدولية، وهي أنها ينبغي أن تراعي الإنسانية، لا أن تكون مجرد انعكاسٍ للنزعة القومية المتعصبة. وهي حقيقة اكتسبت أهمية خاصة في العصر النووي. غير أن أعظم نجاحاته، المتمثل في إصلاح الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينيات، تحوّل إلى أكبر إخفاقاته، إذ أفضى الإصلاح إلى ثورات سلمية اجتاحت الإمبراطورية السوفييتية. وهكذا، أخرج غورباتشوف الاتحاد السوفييتي من الوجود عبر إصلاحه.
عبدربه.. ” المقدس في نظر إدارته “
ربما لم يكن هناك ملامح تشابه كبير بين عبدربة وغورباتشوف فقد كان عكس ذلك الأحمق المقدس ، لأنه كان بعيدًا عن كونه نبيًا. بيد أن عبدربه لم يستطع التنبؤ بالمستقبل؛ فعندما بدأ إصلاحاته السياسية والعسكرية بعد سقوط نظام ” صالح ” كان العالم المثالي الذي حلم به هو اتحاد يمني تزدهر فيه قيم العروبة اليمنية ، يمن موحد يمتد بسلام من المهرة إلى صعدة ، ينعم بالحرية والأخوة والمساواة. لكنه لم يدرك اليمن الكبير كما سيكون عندما تسير إصلاحاته في مسارها. لم يتنبأ بتصدع الوحدة اليمنية وتقاسم شتات الفتن بين طبقاته الاجتماعية، لم يتنبأ بأنهيار النظام السياسي الجمهوري القويم الذي مّنى شعبه بحمايته وتقاسم الشراكة في السلطة السياسية، لم يتنبأ باليمن المجزأة خلال السنوات الاخيرة ، نصفها في دوامة صراع اقتصادي الى فوضى وتقاسم نفوذ لدول أجنبية والنصف الآخر خارج عن معادلة الاعتراف الدولي ، نصفها في الواقعية السياسية والنصف الآخر خارجه.
لم يتنبأ بصعود سطوة حكومة صنعاء على المزاج الشعبي لقضايا الشرق الأوسط ( قضية فلسطين على وجهة التحديد ) دون حكومة الخلفاء ( المجلس الرئاسي ) ممن لم يستطيعوا فرض سيادتهم على مؤسساتهم الحكومية الوطنية، عبدربه الذي لم تكن سطوته في وقت سابق أقل من سطوة النظام السابق ( عهد علي صالح ) لكنه لم يكن لديه استثمار في مثالية الوحدة اليمنية . صالح كان لديه تقدير للقوة القومية ( للقوة اليمنية ) التي لم يشاركها عبدربه في سياستها الخارجية.
لم يخطر بباله أن تلك الإصلاحات ستؤدي إلى توالي انهيارات مؤسسات الدولة ، وأن اليمن ستخرج من ذلك الحدث مقسمة؛ سيكون جزء منها في صراع سطوة القبيلة، أما الجزء الآخر فسيكون منضويا تحت سياسات لأجندات خارجية والباقي خارج الإطارين، كما لم يدر في خلده صعود السفهاء إلى سدة الحكم.
المنظور الواقعي وغفلة عبدربه
يلخصُ أستاذ العلوم السياسية جون ميرشايمر، و ستيفن والت.، مع نخبة من منظري المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية السياسية، رؤيتهم وتصوراتهم أن ثمة اعتقاد شائع عن الواقعية بأنها لا تعطي أهميةً للأخلاق في رؤيتها للعالم، ولا تركز إلا على المصالح المادية للدول، في عالم تحكمه القوة، وأن العالم لا تحكمه حكومة مركزية، وأن الدول لن تتردد في اللجوء لما يحقق مصالحها ويعظم قوتها، خاصةً القوة العسكرية والمادية.
الفراغ الذي تركه عبدربه عندما اضطر إلى التنحي، شكل مشكلات لكل من الفصائل الانفصالية والحركات السياسية اليمنية.
فريق مُثلث
تقدِّم “الواقعية” تفسيرًا لسلوك الدول بناءً على رغبتها في تعظيم قوتها، وتعتبر أن النظام الدولي نظام فوضوي لا توجد فيه سلطة مركزية، فتسعى كل دولة لتأمين نفسها بشكل ذاتي من خلال كسب مزيد من القوة وتعظيم قدراتها المادية، خاصةً القدرات العسكرية والاقتصادية.
ففي سياسته مع التحالف العربي .. لم يكن يدرك عبدربه حين فقد مركزية قراره بإيعاز كل مؤسسات الدولة الى دول التحالف وشرعن كل توجه صادر منهم عبر تشكيل أذرع عسكرية أوحصار اقتصادي أو شل حركة الملامح الجوية والبحرية وتعطيل موارد البلد، أن هناك نظرية تدار في الخفاء ضده وضد بلدة وانه اذا لم يكن لديك مشروع، ستكون أنت المشروع ، فـ دول التحالف تسعى لتشكيل شرق أوسط جديد أكثر ودية مع الولايات المتحدة ذات المصالح الاقتصادية فقط وهو ما أعطى ضوء اخضر في اقصاء اليمن القوي المستند لجيشيه – الخارج عن معادلة الامريكان – بالهجوم عليه تارة وتجريده من المهام تارة أخرى.
تلك المدرسة “الواقعية” تتبنى عددًا من النظريات، من ضمنها نظرية الواقعية الهيكلية الهجومية التي قدمها ميرشايمر، وتتلخص في أن الدول تسعى لتعظيم قوتها كلما استطاعت، وأنها إذا تمكنت من الهيمنة على غيرها ستفعل، ولن تتوقف عن تعظيم قوتها وتوسعها وهذا ما يفسر عزو جدية التعاون والتحالف في استعادة ما يسمى الشرعية الى سدة الحكم بصنعاء.
رجل نزيه، نظام غير نزيه
في ذروة مجده، يمكن أن يكون عبدربه هادياً. إنه دراسة حالة للمثقف في السلطة، مع إغراء المثقف لمتابعة الأفكار الكبيرة – حتى النقطة التي يتفانى فيها. ومع ذلك، كانت نزاهة عبدربه استثنائية، وليس فقط للنظام الوحدوي، حيث امتزجت الجريمة والسلطة الدولة بسلاسة. بسبب نزاهته، كان سيقبل تكاليف لا يقبلها سوى عدد قليل من السياسيين الآخرين. لم يمنع هدوء عبدربه من التضحية بالمبدأ.
قرر عبدربه أن يصبح جورج واشنطن اليمن ما بعد الوحدة. أظهر أن الانتقال السلمي للسلطة كان ضروريًا وممكنًا. على عكس سلفه في النظام السابق ( علي صالح )
فريق مُثلث
كان لنزاهته نفسها تداعيات تاريخية على مستوى الجمهورية اليمنية. لم يكن عبدربه رجل سلام حقيقي. في أحيان عديدة، بما في ذلك حرب الانفصال 1994، لعب دورًا محوريًا في حرب الانفصال اليمنية عام 1994. كان هادي وزير الدفاع في ذلك الوقت، وقاد الجيش اليمني في الهجوم على الجنوب اليمني، مما أدى إلى إعادة التوحيد بالقوة، تمكنت القوات اليمنية من تحرير عدن والسيطرة على المناطق الجنوبية التي كانت تحت سيطرة الانفصاليين. تكمن نزاهة عبدربه ، إذن، ليس في رفضه للعنف ولكن في رفضه للعنف الجماعي والعنف العدمي. كانت وسائل العنف الجماعي تحت تصرفه، ولكنه في الأغلب، اختار عدم استخدامها ضد الحركات المعارضة أو الانفصالية في جميع الفصائل اليمنية من صعدة وحتى مشروع الجنوبي وأعطى كل واحد منهم صلاحيات تفوق المطلب السياسي لهم . لم يكن يريد ترك تلك الحركات السياسية ان تذهب. – لكنه فعل ذلك بدون قصد – هدية نادرة في سجل التاريخ اليمني.
هدية أخرى، أقل وضوحًا وأكثر تعقيدًا، كانت الطريقة التي تخلى بها عبدربه عن سلطته الرئاسية. بحلول 7 أبريل 2022 ، حيث قد تغلب عليه عُصبة الحلفاء في الخارج. في وقت سابق من ذلك الوقت، وبعد عدة تكهنات بأنه كان تحت الاقامة الجبرية لعدة سنوات قضاها خارج الوطن، كان عبدربه قد ضعُف بسبب محاولته الانفلال من القرارات والانصياع لسياسات الذين وضعوه تحت الإقامة الجبرية. لقد حكمت كفاءة المتآمرين على المؤامرة بالنجاح، أُجبر عبدربه أخيرًا على التنحي، عندما بدأت سلطة الواقع السياسي في الخارج في حل ما يسمى بالوحدة أومشروع الاتحاد اليمني.
لكن عبدربه لم يستدعِ بما تبقى من الجيش الوطني في تحكيم قبضة الدولة ولو في محافظة واحدة على الأقل ، ولم يدعُ إلى العنف في الشوارع للتمسك على منصبة، أو يبحث عن الموالين داخل الاحزاب السياسية للحفاظ على السلطة بالقوة. بدلاً من ذلك، قرر عبدربه أن يصبح جورج واشنطن اليمن ما بعد الوحدة. أظهر أن الانتقال السلمي للسلطة كان ضروريًا وممكنًا. على عكس سلفه في النظام السابق ( علي صالح )، على الأرجح – استنتج عبدربه أنه من الأفضل عدم الموت في المنصب. كان من الأفضل لأولئك الذين في السلطة ألا يتمسكوا بها بأي ثمن.
فجوة على شكل اليمن المنشود
قد يكون عبدربه رجل نزيه، ولكنه كان رجل دولة كارثيًّا. على الرغم من ثقته بنفسه وذكائه اللامع وحمله الكرامة، إلا أن عبدربه لم يكن يعرف ما الذي يفعله. باسم الحفاظ على شكل من أشكال الوحدة اليمنية التي لم تكن تلعب دورًا كبيرًا في الوظائف الفعلية للاتحاد ، قام باتخاذ سلسلة من الإجراءات التي سرعان ما خرجت عن السيطرة.
بعد منح الأفراد والجماعات حرية أكبر من أجل إنقاذ الوحدة ، كان عليه أن يشاهدهم وهم يستخدمون هذه الحرية لتقويض الاتحاد اليمني. لم يكن يفهم دوافع الناس الذين كان يحكمهم. لم يكن يفهم قوميتهم. لم يكن يفهم تشاؤمهم. لم يكن يفهم الدور الذي كان يلعبه القسر في إبقاء اليمن واقفًا خارج معادلة التنمية والنهضة والعدالة، ولذا كان ساذجًا بشأن ما سيحدث عندما يتراجع هذا القسر من خلال (الانفتاح مع الحلفاء ) (وإعادة الهيكلة)، الكلمات الطنانة لعهد ولايته.
الواقعية الدفاعية والفرصة الأخيرة
لا يمكن لوم عبدربه على حروب اليمن العبثية اليوم. قد يكون عبدربه غير مستقر في وطن المهجر، الذي لم يعجبه،. ومع ذلك، يتحمل عبدربه مسؤولية الظروف التي شكلت شرطًا مسبقًا لحروب اليمن وللحالة الكارثية لعلاقاتها مع الجوار والاقليم والعالم بأجمع. خلق عبدربه بفعل فشله كدولة فراغًا هائلًا في شكل الدولة وما يمكن أن تصنعه المنطقة الاستراتيجية الحيوية التي يتمتع بها اليمن في الشرق الأوسط.. لم يكن لديه رؤية مستدامة لهذه المنطقة الحيوية. كان أكثر نزاهة من أن يبقيها تحت سيطرة حلفاء أمريكا بالمنطقة أوأكثر سيادة واستقلالية من أن يتفاوض على ترتيب آخر، لذلك ببساطة انجرف بعيدًا بسبب الارتباك الناجم.
الفراغ الذي تركه عبدربه عندما اضطر إلى التنحي، شكل مشكلات لكل من الفصائل الانفصالية والحركات السياسية اليمنية. فسّر السياسيون هذا الفراغ على أنه خسارة لليمن الحديث والمنشود، يتحدثون نيابة عن العديد من ابناء الوطن في هذا الصدد. ما فقدته اليمن، جادل المراقبون، على أن يجب أن يستعيد عبدربه قراره – بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر. ولكن هذه المره إذا كان لديه ولدى ما تبقى من حلفاءه النزهاء قد توصلوا إلى هيكل أمني قابل للعمل لليمن والمنطقة بشكل عام، إذا كان قد فهم حقًا الفراغ الذي تركه، فلن تكون هناك حروب عبثية هنا وهناك وتجاوزات سيادية تعجرف ما ينشده أبناء الوطن حقا.
يجب ألا تطغى الانتقادات الموجهة لعبدربه كدولة على الإعجاب المؤهل بعبدربه كإنسان. لم يكن مقدسًا، ولكن أيضًا لم يكن أحمق تمامًا.
فريق مُثلث
إذا كانت الواقعية تؤيد اتخاذ الدول لسياسات من الممكن أن تكون غير أخلاقية في بعض الأحيان إن كانت تضمن تحقيق مصالحها، فإن على عبدربه أن يتخذ منحى أخر أكثر جراءة في خلق عداوة مع الجميع وأن يصنع لنفسه شكل سياسي أخر يضمن تنفيذ قراراته بمعوز عن أجندة الخارج وأن يترجم أيضًا نظرية الواقعية الدفاعية التي ترى أن توسع الدول الزائد أو استمرارها في التوسع غير المحدود يضعفانهم ويؤديان لنهايتهم، مثلما حدث مع ألمانيا النازية ” في إشارة لحلفاءه السابقين من دول المنطقة”
يجب ألا تطغى الانتقادات الموجهة لعبدربه كدولة على الإعجاب المؤهل بعبدربه كإنسان. لم يكن مقدسًا، ولكن أيضًا لم يكن أحمق تمامًا. ولم يكن شريرًا، رغم الازدراء الذي شعر به الكثير من اليمنيين تجاهه. كما قال الأمير هاملت عن والده الملك المتوفى: “لقد كان إنسانًا، خذه كله”.