«هل لا تزال الثقافة طريقة أساسية وضرورية تحدث بها تلك الحقيقة التي تعتبر حاسمة لوجودنا التاريخي، أم أن هذا الشيء لم يعد موجودًا؟» – مارتن هايدغر
يعود خطاب الهوية بين الفينة والأخرى إلى السطح والتداول وتصدر المشهد، بطرق مختلفة ومتعددة. من أهم هذه الطرق علاقة السلوكيات الثقافية بالهوية موضوعاً لهذا المقال، والذي يثير الكثير من الجدل بشكل مستمر في وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتبر مؤشرًا جيدًا في الكثير من الأحيان لمعرفة ما يعتمل في المجتمع، وما يسعى الكثير من الأفراد للحصول على تأييد ودعم شعبي لأفكارهم وتوجهاتهم المختلفة.
الأمر الذي يعني تأسيس طرق جديدة للتفكير والنظر للأمور، من شأنها أن تدعم توجهات فكرية معينة في مقابل خفوت وتلاشي وجهات نظر أخرى. يتجلى هذا النمط الفكري في التصورات الجديدة لأفراد المجتمع تجاه بعض السلوكيات الفنية البشرية المتوارثة، والتي أصبحت تلقى رفضًا كبيرًا من جماعات وفئات تتزايد بشكل مستمر، وذلك تحت عناوين ومسميات متفاوتة.
التصور الرافع في هذا المقال هو تأثير تعاطي القات على الهوية اليمنية كأحد إزمات الفرد العربي اليمني مع محيطة الثقافي والحضاري العربي
فريق مُثلث
حضرت خطابات تعاطي القات في بعض من مواقف وكتابات رواد الحركة الوطنية، بوصفه واحدة من مشكلات اليمنيين المستديمة، لأضراره الصحية والمادية، وتحوله بمرور الوقت إلى معضلة اجتماعية واقتصادية في البلد العربي الأصيل. ولعل كتاب “القات؛ السلوى والبلوى” لمحمد أحمد الرعدي، تلخيص مكثَّف لهذا الحال.
حين ينقل متعاطيه مِن وَهْمِ “السلوى” وقت مضغه إلى (فضاعة) “البلوى” بعد (قلعه) أي بعد وقت قصير من رميه. وقد يتذكر مواطنو السبعينيات، كيف أن رئيس الوزراء وقتها، الراحل محسن العيني جُوبِهَ باستشراس شديد من واجهات اجتماعية وسياسية ومشايخ، عندما اتخذ قراره الشهير في العام 1972، بتجريم زراعة القات ومنع تعاطيه في الجهات والدوائر والأماكن العامة.
القات مشكلة استفحلت وتحولت إلى ظاهرة، غطت البلاد، حتى التي لم تكن تقربه، كحضرموت! الأمر بحاجة إلى رؤية، والرؤية لا بد أن تتحول إلى خطة، والخطة لا بد أن تكون برنامجًا زمنيًّا، يتألب فيه الجهد في سبيل أن نجد البلاد يومًا -حقيقة وليس ادعاء- “يمن بلا قات”. والقات لم يتحول إلى آفة إلا متى ما سيّسته السياسة، فصار ككرة القدم في مصر، حين حولتها الأجهزة الأمنية إلى مصر الحمراء وتلك البيضاء، وما بينهما لا يوجد أحد!
النبتة في تهويد الصورة الحضارية
التصور الرافع في هذا المقال هو تأثير تعاطي القات على الهوية اليمنية كأحد إزمات الفرد العربي اليمني مع محيطة الثقافي والحضاري العربي، وكأحد أوجة المشوهات الصورية والجمالية للفرد البشري من منظور الاتصال الحضاري مع ماضيه وحاضره ومستقبله المتصل بمسميات عميقة وكبيرة المرتبطة بالتأصل في الوجود العربي.
بعيدًا عن الأصول والتطورات التاريخية لمصطلح الجماليات أو الأستطيقا (Aesthetics)، والتي ابتدأ الحديث عنها منذ عصر الإغريق عن الجميل، والجمال، والفن، والفنون، لكن كل هذه المباحث صارت تقليدية أو كلاسيكية حين ظهر الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804)، وتحديدًا كتابه «نقد ملكة الحُكم» عام 1790، والذي أثار الكثير من النقاش اللاحق بين هذا المصطلح وعلاقته بالمحسوسات والذوق من جهة أولى، وتفرعه عن مباحث أخرى مثل المنطق والميتافيزيقا والإتيقيا من جهة ثانية، وإخضاع الجميل للحكم العقلي واقتصاره على علاقة أو رؤية الذات بالجمال من زاويتها الخاصة من جهة ثالثة.
كيف أستطاعت نبتةّ القات الإستحواذ على الصورة النمطية للانسان اليمني خلال العقود الإخيرة من المنظور الثقافي والنمط المجتمعي مالم يكن هناك أي خطوات تشجيعية من مؤسسات القرار الحكومي
فريق مُثلث
بطبيعة الحال الحضارة العربية الكلاسيكية، التي ناقش فلاسفتها الجميل بحسب أدواتهم المتوفرة آنذاك. فالجمال أو الحُسن حاضر في النفس البشرية منذ أزل الأزل، والتساؤلات عنه والرغبة العميقة في معرفة كنهه رافقت التفكير الديني أيضًا، على حد سواء مع التفكير الفلسفي والشعري والمعماري أيضًا.
كيف أستطاعت نبتةّ القات الإستحواذ على الصورة النمطية للانسان اليمني خلال العقود الإخيرة من المنظور الثقافي والنمط المجتمعي مالم يكن هناك أي خطوات تشجيعية من مؤسسات القرار الحكومي كخيار أخر لتقوية أعمدة إقتصادهم. فقد شكلت هالمعضلة من صورة منبوذة لمتعاطي النبتةّ داخل دور ومجالس خفية وسرية الى إشهار عام وشامل لفنانين ومثقفين ومسؤولي سلطة كانوا الإبرز في تقديم وجه اليمن كدولة وشعب وأمة وحضارة متصلة بإبعادها التاريخية العريقة.
ساهمت تلك الوجوه وتلك السياسات بغزارة في هدم الإضفاء والإثراء للصورة الحضارية الجمالية لليمن التي تحاول بعض الجهات في دعمها وتستكشف بتحركاتها جميع الابعاد ذات الدلالات الثقافية والطبيعية المساهمة في قطاع الثقافة بطريقتها الخاصة الحديث منها والاصيل.
في حين أن تعاطي القات خارج عن القوالب والتصورات والأنماط التقليدية، فهو لا يمثل التحزبات الأيديولوجية والمجتمعات القبلية، ولا يسعى لاستثارتها أو التلاعب بها، بل يخاطب الجوانب الانفعالية وغير المحسوسة في الفرد، أو تلك القيم اللصيقة بالفرد المتعين، خارج الجماعة، كقيمة الخُلق، والحرية، والقدرة على تأويل الأشياء والمواضيع خارج النمط المعهود والمتعارف عليه وكلها تشكل معنى تام ” للهوية “
يتبع ..
أستكمل الفكرة عبر الجزء الثاني : جودة الحياة وكارثية نبتّة القات