أبدأ كتابة هذا المقال في الأسبوع التالي لمذبحة مستشفى المعمداني في غزة. بعد أن قطعتُ على نفسي وعداٌ بالتوقف ولو قليل عن التدوين والقراءة لتحولات المنطقة والتوجه التام للأعمال والالتزام المهني . فلا أعرفُ تحديدًا عن أي شيء سأكتب، لكنني أعرف ضرورة أن نكتب جميعًا عن فلسطين، وعن الدم الفلسطيني، وقبل أن يصبح دمً فلسطينياٌ فهو دم عربي أخر في بقعة جغرافية أخرى يتجاذبنا ونتجاذبه في المعاناة. حتى وإن لم نقل جديدًا، على أمل ألا ننساه، ألا يصبح هذا الدم المستباح مجرد خبر، أو “نتيجة لأحداث” ننشغل عنها بعد أيام، لنتذكرها مجددًا مع المذبحة التالية.
أدركتُ مبكرًا أن سؤال الهزيمة والفشل سيلاحقني كهاجس وصولًا ربما للحظة موتي. كان الأمر مثيرًا للانتباه، فهذا الإدراك الذي حدث نهايات عقدي العشرين، جاء في لحظة انتصار مهني/فني جزئية، أدركت خلالها أنني حلمت بانتصار كلي، شامل، وأن يتم الاعتراف بي كـ”الأفضل”. خجلت من الفكرة، وخجلت من الرغبة في الفوز، ومن استجابتي لمنطق المنافسة والسباق، وأفعل التفضيل.
من أكبر اللعنات في الكون أن يولد الإنسان عربياً، أن ينتمي بصدفة الميلاد لشعب ملاحق ومطارد ومقتول. لكننا، نحن العرب ، شعرنا هذه المرة ببعض التشفي والفخر، حتى لو لم نبح بهما علانية، فهذه المرة مختلفة عن المرات السابقة، التي قُتل فيها أطفالنا لمجرد أن إسرائيليًّا واحدًا شعر بالتهديد، ودون أن نشعر بأننا آلمنا عدونا.
من أكبر اللعنات في الكون أن يولد الإنسان عربياً، أن ينتمي بصدفة الميلاد لشعب ملاحق ومطارد ومقتول. لكننا، نحن العرب ، شعرنا هذه المرة ببعض التشفي والفخر، حتى لو لم نبح بهما علانية،
الكاتب
ربما أخادع نفسي عندما أقول إن هذه المرة مختلفة بالرغم من هذا الدم الكثير، الذي تصل رائحته لكلِّ من لم يفقد حواسه على هذا الكوكب. فهناك كوبا، حيث انتصرنا يومًا على الأمريكيين، وضمير الجمع في “انتصرنا” العائد على شعوبنا المهزومة عادة مقصود، ومن حقنا، عندما انتصر الشعب الكوبي لنا، مطلع 1959، على الأمريكي الداعم والممول لعملية ذبحنا، بالرغم من آلاف الكيلومترات التي تفصل كوبا عن غزة.
لا يوجد انتصار أو هزيمة مطلقان وكاملان. يردد هذه الفكرة كثيرًا رئيس الأوروجواي السابق، اليساري خوسيه موخيكا، في حواراته الصحفية ولزواره. مجرد ترديده لها، وإن كان بغموض، كافٍ كدعوة لتأملها وأخذها بجدية. فطوال أعوام كثيرة قضاها متنقلًا بين مراكز اعتقال عسكرية سرية، دون أن تساوي حياته ثمن رصاصة واحدة للتخلص من عبء “استضافته” وتعذيبه، لم يعتبر أن هزيمته وهزيمة حلمه مطلقة، بالرغم من أنها بدت على هذا النحو. فتحديه هو وآخرين للسجانين والجنرالات، ورفض الخضوع لهم، أو منحهم وسام الاستحقاق، ينفي عن انتصار العسكري اكتماله، ويجعله نسبيًا.
بوصلة الثوابت الأخلاقية .. فلسطين!
عالم عربي يضظرب ويتداعى ويفقد فيه كل شيء معناه, لم يبقَ من ثوابته الأخلاقية إلا القضية الفلسطينية – وهذا على حد انه فقط لدى الشعوب وليست الانظمة العربية – كل تجليات الأمة العربية والإيمان بها وبالتقدم والحرية ينهش بقصد وغير قصد ولم يبقَ منها إلا فلسطين… هناك ملايين من الشباب العرب لا ينقذهم من وهدة العدمية هذه والتفسُّخ إلا هذه القضية.
توجد مسلمات وحقائق بدهية غير قابلة للنقاش، وليست محلًا لتبادل الآراء، الشمس مثلًا تشرق نهارًا وتغيب في المساء. حقيقة أخرى تقول إن الماء يغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ولن ندخل في صراع حول هل الأرض على هيئة كرة فعلًا أم مسطحة، فمع أن كرويتها حقيقة بدهية إلا أنها من الحقائق التي يمكن نقاشها. ونحن هنا نريد أن نتكلم فقط عن المسلمات التي لا يمكن نقاشها، عن الحقائق التي كنا نظن أنها واضحة إلى الحد الذي يجعل شرحها إهانة للعقل.
وهناك حقيقة بدهية أخرى أكثر وضوحًا مما سبق، تقول إن الكيان الصهيوني مغتصب ومحتل للأرض، وهي حقيقة يبدو النقاش حولها مضحكًا ويجعل المتحاورين حول صحتها من عدمها يظهرون كأنهم يمثلون في مسرحية هزلية. هي واحدة من الحقائق التي لا يصح في الأفهام شيء إذا احتاجت إلى دليل. ولو أن المتنبي تأخر قليلًا لاستبدل بكلمة النهار «الاحتلال» في بيته الشهير الذي قاله وهو يواجه معضلة توضيح الواضحات.
وهناك حقيقة بدهية أخرى أكثر وضوحًا مما سبق، تقول إن الكيان الصهيوني مغتصب ومحتل للأرض، وهي حقيقة يبدو النقاش حولها مضحكًا ويجعل المتحاورين حول صحتها من عدمها
فريق مٌثلث
الحقيقة البدهية الأخرى يبدو الاضطرار إلى شرحها لأي أحد أمرًا سخيفًا ومحرجًا، فكيف إن كان هذا عربيًا مسلمًا يستطيع أن يقرأ ويكتب ويشاهد ويسمع. وهي أن: الكيان الصهيوني ليس بحاجة إلى أعذار أو مسوغات ليقتل الإنسان ويفسد الأرض ويهجر سكانها ويشردهم على مرئ ومسمع الجميع من الكيانات والدول والشعوب.
مدهش أن بعض العرب يتهمون العرب بأنهم يفضلون النضال على السلام مع إسرائيل. يتجاهل هؤلاء أو يجهلون: أن إسرائيل لم تتقدم بمبادرة سلام واحدة منذ نشأتها حتى اللحظة. رفضت كل مبادرات السلام العربية. ترفض الدولة الفلسطينية. طبع معها بعض العرب مجانا ولم يشفع لهم ذلك في شيئ. مدهش حقا.
فلسطين لا تزال رغم كل ما تراه من اهتراء عربي في صلب التفكير العام والثقافة والوجدان. أترى القمع والكوارث الاقتصادية التي تنزل بأغلب المجتمعات العربية؟ هذه كلها تحدث والنظام مدرك أن هناك خطًا أحمر، ولكن لو مرّت هذه الإبادة فتخيّل ما ستفعله هذه الأنظمة بنا؟ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، رقبة المجتمع العربي الآن تحت السكين، إذا لم تفعل الجماهير شيئًا ضد المذبحة سيُذبح هو لاحقًا اقتصاديًا واجتماعيًا. طبعًا قد يقود فُجر النظام المبالغ فيه بعد فترة لانفجارات هائلة ولكن حينها سيكون طريق البناء ولملمة شتاتنا طويلة وصعبة، نحن وفلسطين
رغم أن الصور الأليمة القادمة من غزة قد توقظ الوعي وتُذكي العاطفة وتوثّق جرائم الصهاينة.. الخ، لكن من الضروري حراسة القلب ألا تفضي به الصور وكثرتها إلى الإنكسار واليأس والشعور بالإنسداد واللاجدوى، فهذا هدف صهيوني أساس من أهداف العنف الأقصى والبطش الأعمى، كسر الإرادة وقتل الأمل.