كل ما أعرفه عن الاكتئاب كنت أقرأه في الكتب وأشاهده في التلفاز، أو أسمعه عبر الأثير. لكن قراءتي تجربتها الشخصية كانت مرحلة جديدة، فبدأت أبحث في الموضوع. عندما حاولت الإستماع بعض الزملاء الذين مروا بتجارب ضيقة من حياتهم ومن من خلال كتاباتهم إعطاء نصائح عملية تطبيقية من وجهة نظر مصاب لا من وجهة نظر طبيب. استغربت حين تتشابه ملامح نصائحهم في تشابه تام كذلك من نفس المرض.
ما لفتني أولًا انتشار الطب النفسي بشكل لم نكن نعيشه من قبل، فأصبح الازدياد في عدد المرضى وحتى عدد العيادات واقعٌ حقيقي. أفادت إحدى نتائج الاستطلاع الكبير، الذي قامت به شبكة البارومتر العربي البحثية لصالح هيئة الإذاعة البريطانية، وشمل عددا من دول العالم العربي، أن نحو 30% من المواطنين العرب إما أنهم شعروا بالاكتئاب أو عانوا من أعراضه ومن ضغوط الحياة اليومية.
أرى أن انكشافنا على بعضنا البعض ومشاركة تفاصيل حياتنا، جعلت الإنسان يشعر دومًا بالنقص
الكاتب
شمل الاستطلاع الذي استغرق شهورا على مدى عامي 2018 و2019 عشر دول عربية والأراضي الفلسطينية المحتلة. ولم يشمل دول مجلس التعاون الخليجي التي رفضت السماح بإجرائه أصلا (ما عدا الكويت التي وصلت نتائج الاستطلاع فيه متأخرة ولم يتسن إدراجه ضمن الدراسة). إضافة الى سوريا نظرا لحالة الحرب السائدة فيها وصعوبة الحديث الى المستطلعة آراؤهم دون قيود. هذه الظاهرة ليست محصورة بنا، ففي أميركا مثلًا يعاني 20% من أمراض القلق.
المفارقة العجيبة أنَّ العالم يتطوّر بشكل لم يسبق له مثيل. فمن كان يتخيَّل أن أعمار البشر خلال الستين عامًا الماضية ستزداد للضعف تقريبًا؟ أنَّ منذ عام 1990، أكثر من ملياري إنسان أصبح قادرًا على الوصول لمياه نظيفة لأول مرة في حياته. ولم يتوقف التطور هنا، فنسبة الأمية انخفضت، الوصول للعلاج أصبح أسهل، عدد الأمهات من يتوفين بسبب الولادة انخفض. صدقًا تطوَّرت حياة البشر تطورًا بديعًا.
مع ذلك، التطور يزداد والاكتئاب يزداد! التقنية تتطور وأمراض القلق لا تتوقف! من وجهة نظري، أرى أن انكشافنا على بعضنا البعض ومشاركة تفاصيل حياتنا، جعلت الإنسان يشعر دومًا بالنقص. فالإنسان بطبيعته كائنٌ يقارن نفسه بالآخرين باستمرار. والشاهد، حين أصبحت معلومات الدخل والضريبة متاحة للجميع في النرويج، ازداد الفارق بين سعادة الأغنياء ومحدودي الدخل.
نحن نعيش عصرًا تصبح فيه الحياة أسهل كلَّ يوم. لكن على ما يبدو، كلما ازداد الإنسان تطوُّرًا، ضاقت به نفسه وضاقت به الحياة.