أن أردت أن تقمع أحداً عن الكلام قل له: “الموضوع أعمق بكثير”، أو “الموضوع ليس بهذه السطحية”. قل له ذلك وأعِدُك بأن هذه الطريقة كفيلة بإغلاق أي نقاش لا يكون على هواك.
عندما نتحدث لا نأتي بأدوات حفر معنا، نحن في الغالب نشير إلى الأفكار، نقف على شطآنها دون أن نبحر. ولإثراء النقاشات يمكن أن تشير إلى زاوية، وغيرك يشير إلى زاوية جديدة، وهكذا تكتمل الصورة بنقاش جماعي. أتحدث هنا عن النقاشات الشفهية العامة أو المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يندرج في حديثي مثلاً ما يُكتب من مقالات علمية أو تحليلية. فكاتب المقال لديه متسع من الوقت والمساحة لجلب أدوات الحفر وتعميق أفكاره.
في موجة العمق الدائرة هذه الأيام، أخبرني صديقي بأنه أنهى خطوبته. سألته عن السبب، قال: كانت عميقة، لا تكف عن طرح الأسئلة
الكاتب
في نقاشاتنا نبني نماذج للأفكار، نشير إليها لعلّها تكون مدعاة للبحث والتأمل، أو تعكس خلاصة ما نفكر فيه، كلها أفكار تبسيطية تحاول الإحاطة بظواهر اجتماعية معقدة، نحرك العقل لكننا لا نحشوه بالفكرة.
أسمع كثيراً مقولة “هذا تبسيط مخلٌّ”.. قد يكون.. لكن ليس كونك قلت إن “الموضوع متعدد الزوايا والأوجه، والواقع أكثر تركيباً وتعقيداً” أنك عميق، فهذه ديباجة أيضاً قد يكون وراءها لا شيء. هي عُدة الاغتيال المعنوي لمن تناقشهم؛ لأننا نعرف أن الحياة بصفة عامة تصنعها عوامل كثيرة، نعلم منها ما نعلم ونجهل ما نجهل.
العلماء عميقون، ليس لأنهم يقفون في مساحة الأمان قائلين: “الظاهرة بالغة التعقيد ومتعددة الزوايا”؛ بل لأن لديهم الشجاعة والقدرة على استبعاد عوامل واعتماد أخرى، في محاولة لإحكام القبضة على الواقع في نموذج يختصر الواقع ولا يحتويه كله.
هذه العملية الترجيحية تدور في عقولنا سريعاً، وأحياناً بغير وعي وبحسب مستوى ثقافتنا وعلمنا بما نتحدث عنه، فتسمع من يقول مثلاً: “لو هبَّ الشعب كله لَتغيَّر الواقع”، أو يقول آخر: “لو أتيحت القوة العسكرية لما كان هذا حالنا”.. هذه ليست مقولات سطحية بقدر ما هي ترجيحات تتوقع أن هذا هو العنصر الحاسم في معادلة التغيير، هو لا يحدثك عن العوامل التي استبعدها؛ بل ما قرر إدراجه في معادلة التغيير.
في المقابل، ليس من يقول لك “الموضوع به 43 متغيراً” أفضل حالاً ممن يختصر الموضوع في عامل أو متغير واحد. فلا الأول يمكن أن تبني عليه معرفة حقيقية بالواقع من منظور عملي يمكن التعامل معه بعد أن رمى في وجهك كل عوامل الكرة الأرضية وكأنه يبرئ ذمته، والثاني قد يورطك؛ لأنك ستُغفل حسابات أخرى قد تكون مهمة.
كن عميقاً كيفما شئت.. ولكن بلطف، واطلب من الناس العمق.. ولكن من دون وقاحة.
في موجة العمق الدائرة هذه الأيام، أخبرني صديقي بأنه أنهى خطوبته. سألته عن السبب، قال: كانت عميقة، لا تكف عن طرح الأسئلة، خاصة تلك الوجودية منها، كل ساعة تسألني: من أين أتيت؟ وإلى أين أذهب؟!