هل أنت شخصٌ ناضج؟ هل آنَ لنا أن ننضج؟ أم أن الوقت المناسب للنضج لم يأتِ بعد؟ هل تتطلَّب منا العشرون وما تليها أن نتحلَّی بالرشد وندع الصفات الصبيانية الحمقاء جانباً، أم أن الرشدَ ليس له سِن بعينها؟ هل كل الذين نسألهم عن أعمارهم فنجدها تفوق الثلاثين، ولربما الأربعين هم بالفعل أشخاص ناضجون، أم أنَّ السن وعظمتها صوَّرا لهم أنهم بالفعل قد نضجوا، رغم أنهم لم يفعلوا بعد؟
كلها أسئلة يمليها عليَّ عقلي، في محاولة منه لإيجاد معيار واضح وصريح للرشد والنضج، رغبةً في العثور علی تفسير منطقي واحد لكل الأفعال الطفولية الصبيانية، التي لا تتناسب مطلقاً مع أعمار أصحابها.
توضيحك لأسبابك ليس بالضرورة معناه أنك ستدخل في نقاش قد ينتهي بتراجعك عن قرارك، بل كل ما في الموضوع أن البشر يستحقون منا تفسيرات
فريق مُثلث
الحقيقة أن الرشدَ لا يتحقَّق بلمح البصر، ولا يأتي عقب بلوغ سن بعينها، بل إن هناك من يعيش ويموت دون أن يعرف معنی للرشد من الأساس، ربما لأن الأمر ليس بهذه البساطة، أو لأنك قد تنضج في أشياء دون غيرها، وهو حال أغلب البشر.
في لحظة مفصلية في حياتي.. أستشعرت بالتخلَّص من الرغبة الدفينة في التعرّف علی عددٍ خرافي من الأشخاص، حتی لو لم يكن يجمعنا بهم أي توافق فكري، فقط لأجل كسب صداقات جديدة، وأن نستبدلها بالرغبة في التعرف علی مَن هم متوافقون معنا بالفعل في المبادئ والمعتقدات، لأن النضج يستوجب منا تقديراً منطقياً لعنصر الوقت، الذي لا يمكن إهداره أبداً مع شخص لا يوجد بيننا وبينه أي نقطة التقاء أو تفاهم.
حين الجلوس بالمقهى .. أرى الكثير من الوجوه والاجناس .. تاتينا لحظات إيمان بتعدد الإفكار والإنتماءات … وفجأة ودون إنذار .. استشعر بحريات البشر أجمعين، بغضِّ النظر عن دينهم، جنسهم، لونهم، أو حتی مبادئهم، وأن نعرف جيداً أن الكلَّ حُرٌّ ما لم يضر، فالتدخين حرية، والحجاب حرية، وشرب الخمر حرية، والرقص حرية؛ طالما لا يضرونك أنت شخصياً، وأما عن الجانب الديني فينبغي أن تدرك بوجود ربٍّ يحاسب البشرَ أجمعين.
أدركت أن النضج هو أن تعرف أن القوة الحقيقية لا تكمن في انعدام الخوف؛ بل تكمن في القدرة علی مواجهته، فخوفك من السفر وحدك مثلاً طبيعي جداً وليس فيه من الضعف شيء، لكن القوة الحقيقية هي أن تتخذي قراراً بالسفر وحدك بالفعل لمواجهة هذا الخوف، وكذلك خوفك من الكلاب أمر طبيعي للغاية، وليس فيه من الضعف شيء، لكن القوة الحقيقية تكمن في اتخاذك قراراً بالتعامل مع كلاب أصدقائك بدلاً من الجري منها كالأطفال.
وأن تؤمن أن البشر أجمعين يستحقون منك تفسيراً لكل شيء متعلق بهم، فحين تتخذ قراراً بإنهاء علاقتك بشخص ما يتوجب عليك توضيح أسبابك، يتوجب عليك أن تشرح ما كان يؤرقك في علاقتك به، وما الذي دفعك لإنهاء تلك العلاقة، لكن لا يصح أبداً أن تقرر فجأة أن تقطع علاقتك بفلان فتمسح رقمه من هاتفك النقال، وتلغي صداقتك به على الفيسبوك، وتتركه في حيرة لا يفهم ما الخطب.
وبالمناسبة توضيحك لأسبابك ليس بالضرورة معناه أنك ستدخل في نقاش قد ينتهي بتراجعك عن قرارك، بل كل ما في الموضوع أن البشر يستحقون منا تفسيرات، حتی لو كانت قراراتنا تجاههم قرارات نهائية مليون بالمائة ولا رجعة فيها.
وكذلك من النضج عدم الخجل من الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عنه، لسنا ملائكة، ومن الطبيعي جداً أن نرتكب أخطاء لأننا بشر أولاً وأخيراً، ولكن من الغباء تكرار الخطأ ذاته عدة مرات، مع نفس الأشخاص، وبنفس المعايير.
وعموماً للنضج دلالات أخرى غير التي ذكرتها بالتأكيد، لكن السن ليست واحدة من تلك الدلالات، والحادية والعشرون ليست معياراً للرشد والبلوغ، والنضج نسبي، يختلف من شخص لآخر، كما أنك قد تنضج في أشياء دون غيرها، كما ذكرت من قبل.