ثمّة لحظة فارقة في تاريخ كلّ أمة، تُدرك فيها أن تشظّي صوتها ليس دليلًا على الحرية، بل على غياب المعنى. وأن ما يُجمع عليه الناس ليس بالضرورة ما يعلو في الصراخ، بل ما يستقرّ في الروح ويلتقي عليه الذوق. فالثقافة ليست مجرد مظاهر متفرقة، بل روحٌ جامعة، ولسانٌ تتّزن به الأذواق، وتتهذّب به الطباع.
تولد الثقافة الغالبة حين تستقرّ في الوجدان، وتغدو تلقائية في الحديث والمظهر والسلوك. هي ليست القوة التي تفرض ذاتها، بل الجاذبية التي تحتضن الجميع دون استعلاء. وحين تترسّخ، لا تهمّ مساحتها الجغرافية، بل مدى اتساعها في القلوب والعقول. إنها مشروع بناء غير معلن، يُشكّل ملامح الهوية، ويعيد رسم العلاقة بين الفرد ومحيطه.
إن الدعوة إلى بلورة لهجة وثقافة يمنية جامعة، تنطلق من خصائص ولهجة المناطق الوسطى، ليست ترفًا فكريًا ولا انعزالاً عن جراح الواقع
الكاتب
وقد نجحت دولٌ عديدة في بلورة هذا المفهوم. فرنسا، على سبيل المثال، استطاعت بذكاء ثقافي أن تُصدّر لغتها كجزء من هويتها الغالبة، ليس فقط داخل حدودها، بل في مستعمراتها السابقة ومجالات نفوذها الحضاري. فـ”الفرنكوفونية” لم تكن مجرد امتداد لغوي، بل كانت عنوانًا لهوية ثقافية كاملة: في اللباس، والمطبخ، والفنون، والإتيكيت، وحتى في التمثيل السياسي والدبلوماسي. إنها تجربة تُظهر كيف يمكن لثقافة واحدة أن توحّد التنوّع، وتمنح الدولة صوتًا عالميًا موحّدًا دون سحق هوياتها الداخلية.
التطبيع للمستقبل
لا يختلف اثنان في اليمن على ما تمتاز به لهجة أبناء المناطق الوسطى من وضوح في النطق، وسلامة في مخارج الحروف، وصفاء في التعبير، يجعلها سهلة الفهم وقريبة من الذائقة العامة، خاصة في الشأن العام والنقاشات الفكرية. هذه الخصائص اللغوية التي تعبّر عن مستوى راقٍ من الاتزان والتواصل الفعّال، كان يمكن أن تُشكّل مكونًا مركزيًا في بناء الهوية الثقافية اليمنية الجامعة. إلا أن محدودية تمثيل هذه المناطق في مؤسسات الدولة، وفي الفضاءات الإعلامية والثقافية، أفسحت المجال لتصدّر لهجات أخرى لا تمثل بالضرورة صورة اليمن الكلية، ما ساهم في تشويش صورة الهوية اللغوية الوطنية.
إن الدعوة إلى بلورة لهجة وثقافة يمنية جامعة، تنطلق من خصائص ولهجة المناطق الوسطى، ليست ترفًا فكريًا ولا انعزالاً عن جراح الواقع، بل تمثل خطوة ضرورية نحو بناء مشروع وطني جامع. فاستشراف هوية لغوية وثقافية غالبة، ذات طابع وسطي متوازن، هو مدخل أساسي لتعزيز الاندماج الداخلي وتهيئة اليمن للانخراط بثقة في محيطه الإقليمي والدولي. هذا التوجه لا يهدف إلى طمس التنوع، بل إلى إنتاج صيغة ثقافية عليا تنبع من عمق المجتمع، وتُعبّر عن تطلعاته، وتوحّد خطابه، وتُعيد رسم صورته بما يليق بتاريخه وحضوره ومستقبله.
لقد برزت في السنوات الأخيرة معضلة حقيقية في تمثيل اليمن الحضري، سواء في مراسم الدولة، أو في الفضاء العام، أو عبر ثقافة اللباس ومُلحقاته
الكاتب
يقوم تصوّر هذا المشروع على بناء هوية لغوية وثقافية يمنية موحدة تستند إلى اللغة الوسطى المشتركة والمفهومة على نطاق واسع، والمتجذّرة في مناطق الوسط اليمني. هذه اللهجة، بما تحمله من وضوح ونقاء وحياد جغرافي نسبي، يمكن أن تمثل الأرضية الصلبة لتشكيل خطاب وطني إعلامي وتعليمي وثقافي قادر على تجاوز الفوارق المناطقية، وصياغة لسان جمعي يُعبّر عن وجدان اليمنيين على اختلاف مشاربهم. المشروع لا يسعى إلى إقصاء التنوع، بل إلى ترسيخ هوية قيادية وسطية تنظم هذا التنوع تحت مظلة وطنية واحدة، تؤسس لثقافة الحوار والانتماء والانفتاح.
إن نجاح هذا المشروع لا ينعكس داخليًا فقط، بل سيكون له أثر كبير في تحسين صورة اليمن خارجيًا. فامتلاك لغة إعلامية موحدة وهوية ثقافية متماسكة يُسهم في تعزيز الحضور اليمني في المحافل الدولية، ويُسهّل إيصال القضايا الوطنية إلى العالم بلغة مفهومة ومؤثرة. كما يُساعد على بناء شراكات ثقافية وتنموية أكثر فعالية، ويمنح المؤسسات اليمنية مصداقية ورسوخًا في مخاطبة الخارج، سواء عبر الإعلام، أو الدبلوماسية، أو الاقتصاد، أو الثقافة. فالعالم اليوم لا يسمع فقط ما نقول، بل كيف نقوله، ومتى نقوله، وبأي لسان موحد ومتماسك نعبّر عن أنفسنا.
مشروعية الدولة وثقافة القانون
لقد برزت في السنوات الأخيرة معضلة حقيقية في تمثيل اليمن الحضري، سواء في مراسم الدولة، أو في الفضاء العام، أو عبر ثقافة اللباس ومُلحقاته (الإكسسوارات)، التي بدأت تخرج تدريجيًا عن نسق الوجدان العربي اليمني المتّسق مع تاريخه وعمقه الحضاري. هذا الخروج لم يكن عفويًا، بل ساهمت في تغذيته تيارات سياسية دخيلة، مدفوعة بأجندات خارجية، استخدمت الجرأة والسطوة كأدوات لفرض نمط ثقافي دخيل، انسلخ عن الهوية اليمنية، وركن إلى نماذج خارجية لا تمت إلى البيئة اليمنية بصلة. فنتج عن ذلك مشهد عام مشوَّه، متعدّد الأوجه، متناقض في تمثيله، لا يعكس وحدة اليمن ولا حضوره العربي الطبيعي.
وقد انعكس هذا التمزق الثقافي على الذائقة العامة، لا سيما في مظهر المواطن اليمني، سواء الرجل أو المرأة، في المجال العام أو الرسمي. حيث بات التميّز في اللباس أو الزينة يخضع للأهواء الفردية دون مرجعية ثقافية أو رقابة ذوقية، بل وأحيانًا دون احترام لقيم المجتمع وصورته أمام العالم. الأمر الذي أضعف صورة الإنسان اليمني، وأفسح المجال لظهور مظاهر متنافرة لا تليق بالمقام الرسمي، بل قد تُشكل موضع سخرية أو استغراب في محيطه العربي والدولي.
يُعد مشروع بلورة ثقافة يمنية غالبة، تنبثق من لهجة وسطية واضحة وهوية حضارية راقية، خطوة تأسيسية نحو بناء مستقبل وطني موحّد يتجاوز التمزق ويستعيد الانسجام.
الكاتب
نحن لا ننكر غنى اليمن الثقافي وتعدديته التي تُعد من عوامل قوته، ولا نُقلل من زخم التجارب التاريخية التي أغنت الشخصية اليمنية في مختلف الأقاليم، إلا أن هذا التنوع يجب أن يُصاغ ضمن إطار وطني جامع، يُراعي الذوق العام، ويُراكم صورة متوازنة تُحسن تمثيل اليمن خارجيًا. فالتنوع ليس بديلاً عن الانضباط، كما أن الحرية الفردية في المظهر لا يجب أن تكون على حساب احترام الهوية الوطنية وشكلها الحضاري أمام الآخرين. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى صياغة ذائقة حضارية مشتركة في الزي والمظهر والسلوك، تكون انعكاسًا لهوية اليمن الأصيلة، لا تشويهاً لها.
إن مشروع بلورة ثقافة يمنية غالبة، تنطلق من لهجة وسطية واضحة وهوية حضارية راقية، هو أكثر من مجرّد طرح ثقافي، بل هو لبنة تأسيس لمستقبل وطني جامع. مشروع يعيد ضبط بوصلة الذوق، ويوحّد اللسان، ويُرمم ما تكسّر من صورة اليمن في الداخل والخارج، على أمل أن يكون هذا اللسان الجامع بداية لصوت يمني موحّد يليق بتاريخ البلد ومكانته.